رمضان وغزة- صيام على الجراح، أمة في زمن الخذلان

المؤلف: أحمد الشيخ11.12.2025
رمضان وغزة- صيام على الجراح، أمة في زمن الخذلان

مع اقتراب شهر رمضان المبارك في السنوات السابقة، كنت أحرص على تذكير أحفادي بفضائل الصيام وأهميته، مبيناً لهم الأجر العظيم الذي ينتظر الصائمين عند الله تعالى، ومجيباً على أسئلتهم واستفساراتهم قدر استطاعتي وعلمي.

كنت أروي لهم قصص الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون في شهر رمضان الكريم، ذاكراً معارك فاصلة مثل معركة بدر الكبرى، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، كما كنت أسرد عليهم شيئاً من السيرة النبوية العطرة لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأتحدث عن بطولات قادة عظام مثل أبي عبيدة عامر بن الجراح، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، والمثنى بن الحارث الشيباني، وعقبة بن نافع، وطارق بن زياد، وغيرهم الكثير من المجاهدين والمنتصرين.

زمن الخذلان

لكن هذا العام، أجد نفسي عاجزاً عن الكلام تماماً. فماذا يمكن للمرء أن يقول عن فريضة الصيام، وفي جزء غال من هذه الأرض، هناك أناس يصومون على بقايا من قوت يومهم ويكتفون بكسرات الخبز الممزوجة بالتراب والدماء؟ فهل هناك بقعة في غزة لم تروَ بدماء الشهداء، سواء كانوا شيوخاً، أطفالاً، أمهات، آباء، إخوة، أخوات، أقارب أو غرباء؟

لقد أغلقت المعابر المحيطة بغزة أبوابها بإحكام عندما صدرت الأوامر بذلك، بينما اكتفى البعض بتقديم مساعدات جوية باهتة، حيث تساقطت الصناديق على رؤوس الأطفال الذين يسابقون الجوع، لتقتلهم بدلاً من أن تغيثهم.

ماذا يمكن أن أقول لأحفادي في هذا الزمن الذي طغى فيه الجبن والخذلان؟ ماذا أقول لهم عندما يسأل أحدهم عن الطعام الذي يجدونه أهل غزة على مائدة الإفطار؟

إن أهل غزة لا يكادون يسمعون صوت الأذان بسبب أصوات الطائرات ودوي الانفجارات وأزيز الرصاص، ولكن قلوبهم المؤمنة تدركه جيداً.

إنهم لا يستعجلون الإفطار، فهم في الغالب لا يملكون ما يفطرون عليه، وإن وجدوا شيئاً بسيطاً فإنهم مشغولون بدفن شهدائهم وتضميد جراحهم. فلا يوجد تمر في خيامهم ليفطروا عليه، ولا ماء نقي ليرووا به عطشهم.

ليست هناك أسواق أو "مولات" مكتظة بأطايب الطعام والملذات المختلفة كما هو الحال في البلدان المحيطة، ففي غزة الوضع مختلف تماماً.

لن يجتمع أهل غزة حول الموائد العامرة بالأطعمة الشهية، ولن يتمكنوا من السهر والسمر وتبادل الأحاديث الودية كما يفعل غيرهم.

بينما الناس من حولهم يمضون لياليهم في السهر والسمر والضحك كما يفعلون في كل عام، وتكتظ المساجد بالمصلين الذين يؤدون صلاة التراويح، ويتسابقون بعد ذلك للاستمتاع بالسمر وتدخين النارجيلة والاستماع إلى المغنين والمغنيات.

أمة عاجزة

لقد تبين لأهل غزة الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانطلقوا في جهادهم. علت تكبيراتهم وارتفعت أصوات بنادقهم، ولمعت سيوفهم في الظلام الدامس من حولهم. ولكن لم يسمع تكبيراتهم أحد، فالناس من حولهم نيام صم. ولم يرَ بريق سيوفهم أحد، فالناس من حولهم نيام عمي. لم يغثهم أحد، فالناس من حولهم نيام بكم، لقد ترفه الناس من حولهم وانغمسوا في ملذاتهم، فلا تسمع في بلادهم عن آلام غزة إلا همساً خافتاً.

إنهم يكبرون في كل لحظة، مع كل طلقة رصاص أو قذيفة مدفع.

بينما يتخافت الناس من حولهم كما تتخافت الدجاجات في قنها عندما يتسلل إليها حيوان مفترس صغير.

يبتهل أهل غزة إلى الله تعالى الذي يقاتلون باسمه، ويسألونه النصر والعون.

بينما يسبح الناس من حولهم بحمد الله الذي أنعم عليهم بالخيرات، وجوعهم من الكرامة، وجعلهم فقراء العزة.

فماذا عساي أن أقول لأحفادي عن رمضان وغزة؟ هل أخبرهم أن أمة عظيمة، تفتخر بتاريخها وبملايينها التي تتجاوز الأربعمائة مليون، عجزت عن أن تقطع متراً واحداً فقط لتوصيل الغذاء إلى غزة في شهر رمضان المبارك، واكتفت بالوقوف مكتوفة الأيدي تنتظر سفناً غربية تقطع مسافة أربعمائة كيلومتر من قبرص لتنزيل الطعام على شواطئ غزة؟

هل أقول لهم إن كل ما حدثتهم به سابقاً عن الوحدة العربية كان مجرد حلم زائف، وأنه لا وجود لوطن عربي موحد، بل مجرد أقطار متفرقة لا يجمعها جامع ولا يحركها وازع؟

هل أقول لهم إن كل الشعارات الرنانة التي تغنيت بها أمامكم عن جيوش الفاتحين القادمة التي ستدخل القدس يوماً ما، كما دخلها عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي، لن تروها أبداً؟

كلا، لن أقول ذلك أبداً! سأخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام حوصروا في الشِعب ثلاث سنوات، لكنهم لم يضعفوا ولم يستسلموا ولم يقبلوا الذل والهوان، وغزة وفلسطين كلها تتذكر محمداً وتسير على دربه.

سأقول لهم إن في غزة رجالاً كالخوالد والعوامر والسعود والطوارق والمثاني، يعيدون سيرة أولئك الفاتحين ولا ينتظرون عوناً إلا من الله وحده.

سأقول لهم: سنقاتل ونجوع ونتألم، ولكننا حتماً سننتصر ونحيي الأمة بأسرها، وحينها يفرح المؤمنون بنصر الله، وينزوي أولئك الذين خذلونا وركنوا إلى الدنيا في قيعان التاريخ المظلمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة